top of page
Writer's pictureنايف ناجي

الحلقة التاسعة عشر - عالمٌ في الخفاء – الجزء الثاني





أنا نايف ناجي، وهذا بودكاست ذا بريني برين!


(موسيقى)

أهلا بكم جميعاً، اليوم سنُكمل الجزء الثاني للكتاب الذي راجعناه في الحلقة السابقة، والذي كان بعنوان: أشباح في الدماغ، Phantoms in the Brain

فقد تعلمنا أن دماغ الإنسان قد يكون حالة بين الاثنتين فلديه مناطق تخصصية كل منها يقوم بعمل معين، وفي نفس الوقت إن استدعت الحاجة فقد يتم تطويع هذا المناطق لأداء وظائف أخرى.

وذكرنا أيضا قصة المرأة التي تختنق بيدها اليُسرى دون اختيارها، في نفس هذه اللحظة تتدخل يدها اليمنى لترفض، وتدفع باليد اليسرى بعيدا في حالة غريبه من التناقض داخل الدماغ الواحد.

وفهمنا أن بعض الأفعال اليومية قد تُعالج بطريقتين مختلفتين كالابتسامة، ثم ابحرنا في حالات الشلل التي تُصيب بعض الناس بحالة من عدم التصديق، فيلجؤون إلى تكذيب شللهم، بل وقد يُنكرون أجزاءً من أجسامهم.

في الحلقة السابقة أيضا تكلمنا عن المنطقة العمياء؟ وماذا نعني بالحشو؟

ومن أهم النقاط التي ذكرتها هو كيف استطاع عالم الاعصاب رامتشاندرن أن يُعالج بالمرآه الآلام المصاحبة لليد المبتورة، وكيف أن التلاعب بالدماغ ليس صعباً، وبالتالي نستطيع أن نُنسي المريض الآلامه من خلال تغذية راجعة، آتيه من انعكاس اليد السليمة على المرآه.

عموما، الحلقة السابقة مليئة بالقصص الغريبة والمعلومات والطبية، وهي مفيدة للجميع، وأنصحُكم بالاستماع إليها ثُمّ إكمال هذا الجزء الثاني.

فهيا بنا نبدأ.....

(موسيقى)

دعونا نبدأ هذا الفصل بقصة أندرسون، وهو سبّاك من لندن يبلغ عمره الخامسة والعشرين، توفّت والدته في عام 1931، وخلال تواجده في مراسم الدفن والعزاء، خرج الجميع بما فيهم أهله وأصدقاءه إلى الخارج لدفن والدته، في هذه اللحظة، بدأ أندرسون بالضحك.

تطورت هذه الضحِكات إلى قهقهات طويلة. حاول أن يضع رأسه داخل قميصه ليمنع نفسه من هذا الضحك الغير مبرر، ولكن لا فائدة، فانسحب ولم يستطع إكمال مراسم الدفن.

في ذلك مساء نقله أحد أفراد أسرته إلى المستشفى، وهدأ الضحك تدريجيا مع الوقت، لكنّ الأمر لازال غير مفهوم، ما لذي حدث؟

بعد يومين، عُثر عليه ممتدا وفاقدا للوعي على سريرة، كان قد عانى من نزيف حاد في دماغه، وبالتحديد في أحد الشرايين عند قاعدة الدماغ، مما أدى إلى ضغط شديد على أجزاء ما تحت المهاد والأجسام الحلمية وغيرها من البُنى المتواجدة داخل قاع الدماغ.

حالة أخرى مماثلة ماتت فيها امرأة من الضحك وتُدعى روث، فقد عانت من سكتة دماغية خفيفة لم تؤثر على حياتها العملية كثيرا، ولكن ذات يوم ودون أي سابق إنذار بدأت تشعر بصداع مفاجئ تبِعه بعد ذلك ضحك مستمر ودون توقف.

لم تستطع السيطرة على ضحكها، وكانت تُمسك رقبتها بيدها كما لو أنها كانت تختنق. استمر ضحكها حتى أُنهكت، وبعد 24 ساعة ماتت من الضحك حقاً.

تشريح الجثة كشف عن وجود الكثير من الدم فيما يُسمى بالبُطين الثالث للدماغ، فقد حدث نزيف شمل قاع المهاد وضغط على العديد من البنى المجاورة.

مثل هذه الحالات تُسمى (بالضحك المَرضي) ووُصف في عدد قليل من الأدبيات الطبية، وبالنظر إلى هذه الحالات فقد نستخلص أن هناك دوائر عصبية للضحك، تشمل مناطق ما تحت المهاد، الأجسام الحلمية، والتلفيف الحزامي.

والضحك المرضي هنا كان بسبب ضغط الدم على هذه المناطق، مما جعلها تُطلق سيل من الإشارات العصبية مؤدية إلى ضحكٍ متواصل قد ينتهي بالموت!

في هذا الباب يذهب راماتشاندرن بعيداً، ويحاول أن يُفصّل أكثر عن أسئلة عميقة مثل: لماذا نضحك؟ وماهي النكتة؟ وما الفائدة التطورية منها؟

و لخّص راماتشاندرن مكونات النكتة والتي تقود بطبيعة الحال إلى الضحك، فيقول: بأن معظم النكات والحوادث المضحكة لها نفس البنية المنطقية التالية:

عادة ما تقود المستمع إلى مسار لغوي يؤدي إلى عكس ما هو متوقع، مما يزيد من التوتر بشكل بطيء. وفي النهاية تُقدِم تحريفاً غير متوقع، يستلزم إعادة تفسير كامل البيانات السابقة.

بالإضافة إلى ذلك، من الأهمية بما كان أن يكون التفسير الجديد، رغم أنه غير متوقع تماماً، أن يُشبه إلى حد كبير مجموعة من الحقائق كما يفعل التفسير (المتوقع) في الأصل.

وتَشترك النُكت في هذا الشأن في أِشياء كثيرة مع الإبداع العلمي، مع ما يسمّيه توماس كون (نقلة نوعية).

وربما أنه ليس من قبيل الصدفة أن يتمتع العديد من العلماء الأكثر إبداعاً بروح دعابة واضحة.

خلاصة الفكرة هنا أن الشخص الذي يصنع النكتة، هو ماهر جداً في جعلك تفكّر في خلاصة أو نتيجة معينه، ثم بذكاء يجعلك تصل لنتيجة أخرى لا تخطر على البال، تجعلك تُعيد النظر فيما قاله سابقا، وبالتأكيد عنصر المفاجأة هو الأهم!

ومن وجهة نظر علم السلوكيات، فالمُقترح: أن الغرض الرئيسي من الضحك قد يكون السماح للفرد بتنبيه الآخرين من المجموعة الاجتماعية (عادة ذوي القربى) بأن الشذوذ الذي تم اكتشافه هو شيء تافه، ولا شيء يدعو إلى القلق، وكأن الشخص الذي يضحك يُعلن عن اكتشاف إنذار كاذب.

الدعابة أيضا قد تُستخدم كآليه للدفاع النفسي، فهل تعتقد أنه ومن قبيل الصدفة أن عددا كبيرا من النُكت تتعامل مع مواضيع مقلقله كالجنس أو الموت؟ وهنا يتضح أنها قد تُستخدم للتقليل من التفكير المزعج، عن طريق التظاهر بأنه ليس له أي نتيجة، فينصرف عنك القلق الذي يساورك عن طريق تشغيل آلية الإنذار الخاطئ الخاص بك.


هناك اضطراب عصبي آخر غريب، يُطلق عليه اسم عدم إدراك الألم، يُقدم تلميحات إضافية حول البُنى العصبية الكامنة وراء الضحك.

المصابين بهذا الاضطراب لا يشكون من الألم حين يتم وخزهم عمداً في الإصبع بإبرة حادة، فهم لا يتوجعون، بل قد يقولون: أستطيع أن أشعر بالألم لكنه لا يؤذي، على ما يبدو أنهم لا يشعرون بالتأثير الانفعالي الشنيع المُصاحب للألم. وبشكل غريب فقد يبدأون بالقهقهة والضحك، كما لو كانوا يُدغدغون!

غالبا ما تظهر هذه المتلازمة، عندما يكون هنالك تلف في بُنية تسمى بالقشرة المعزولة، وهي مدفونة بين الفص الجداري والصدغي، وترتبط ارتباط وثيق بالبُنى التي تضررت عند روث. وما يحدث هنا في هذه المتلازمة هو الفصل بين القشرة المعزولة وأجزاء من الجهاز الحوفي، فالقشرة المعزولة تقول: هنالك شيء مؤلم وتهديد محتمل، بينما يقول جزء من الجهاز الحوفي: لا داعي للقلق، هذا ليس تهديدا. وما حدث بالضبط هو تهديد يتبعه انكماش، فيكون الحل هو الضحك!

يحدث شيء مشابه لهذا عن دغدغة الأطفال، فالطفل يتساءل: هل سوف يُؤلمني أو يهُزني أو يدفعُني؟ لكن بمجرد أن تحتك أصابعك احتكاكا خفيفاً متقطعا بباطن القدم ، فالتفسير يكون كما ذكرنا (تهديد يتبعه انكماش) يؤدي في النهاية إلى الضحك!


(موسيقى)


في هذه الفقرة سنُناقش علاقة الدماغ والجسم، وكيف أن قوة إيمانك بشيء قد يَجعل عقلكَ يَتأثر ويتحفز فينعكس على جسدك، وقد يحدث ما لا يُصدق.

ينتقد الكاتب في هذا الفصل تجاهل الطب الغربي، لبعض ما جاء في الطب الشرقي، من توّحد العقل والجسم والعلاقة الأصيلة بينهما.

سنبدأ بقصة ماري نايت، وهي سيدة تبلغ من العمر 32 عاما، كانت هذه السيدة حاملا في الشهر التاسع. كلُ شيء كان يسير على ما يرام.

كان حملها صعبا ومُنتظرا لفترة طويلة، ولكن في الأخير تحققت أمنيتها في الحمل.

لم ترَ طبيباً إلا حينما أحست بأن الطفل يركل بطنها، وهنا شكّت أن وقت الولادة قد حان.

زارت ماري الدكتور مونرو للتأكد من سلامة الطفل في المرحلة الأخيرة من الحمل، لتحضيرها للولادة، وقد حان فعلا وقت ولادتها.

فحص الدكتور مونرو بطنها، فكان متضخما جدا ومنخفضا، وهذا يشير إلى أن الجنين قد نزل، كذلك كان ثدياها منتفخين. لكن شيئاً لم يكن صحيحا، فلم ترصد سماعات الدكتور دقات قلب الجنين، فقال لنفسه: ربما التف الطفل بطريقة معينة منعت ذلك.

الشيء الآخر الذي لاحظه هو أن سُر هذه المرأة ليس بارزا للخارج، بل مقعّر، ومن المعروف أن من علامات الحمل السليم هو أن يَبرز السُر للخارج، في هذه اللحظة اندهش الدكتور مونرو وبهدوء تام لم يُظهر أي شيئاً لهذه المرآة، فهو يقول في نفسه هذا هو الحمل الكاذب الذي درسته في كلية الطب.

بعض النساء من شدة رغبتهن بأن يصبحن حوامل، يشعرن بكل علامات الحمل الحقيقي وبكل اعراضه، فتنتفخ بطونهن إلى أبعاد هائلة، فكُل ما يحدث للحوامل يحدث لهنّ، إلا أنه لا يوجد طفل!

السؤال هنا كيف يخبر الدكتور ماري أنها تعاني من حمل كاذب؟

تمالك نفسه وبهدوء نطق وقال: إن الطفل قادمٌ الآن، ولكن سأعطيك علاج للتخدير لكي نستطيع توليدك، نامت ماري لتستيقظ بعد ذلك ويخبرها الطبيب أنه وللأسف قد وُلد الطفل ميتاً، وأرف قائلاً: لقد فعلتُ كلَ ما في وسعي ولكن دون جدوى، فأنا آسف جداً!

انهارت وبكت، ولكنها تقبلّت أخبار الدكتور، وعادت إلى منزلها، وكان ذلك خيبةَ أملٍ فظيعة لجميع الأسرة.

العجيب في الموضوع أنه وبعد أسبوعين، عادت إلى الدكتور مونرو وبطنُها بارزٌ وضخمٌ كما كان، وقالت: دكتور، دكتور: لقد نسيت توليد التوأم الآخر، أشعر به الان وهو يركلني!

هنا يتساءل الكاتب: هل هناك صلات بين العقل والجسم لا تفهمها الثقافات الغربية، فهو يقول أن في الهند موطنه الأصلي، يفترض ممارسو اليوقا أنهم يستطيعون السيطرة على ضغط الدم ومعدل ضربات القلب والتنفس.

والسؤال هنا أيضا هل ينجم المرض عن التوتر المزمن؟ وهل التأمل يجعل المرء يعيش لفترة أطول؟

من ضمن الأفكار التي تندرج بين علاقة العقل والجسم، ما يُسمى بتأثير الدواء الوهمي أو "البلاسيبو": ويعني أن مجرد الاعتقاد في علاج ما، يُحسّن حالة الشخص، إن لم يحسن صحته البدنية فعلاً!

إذا ما لذي حدث داخل جسم ماري، ليجعَلَها تشعر بكل شيء يخص المرأة الحامل، ولكن دون أن يكون هنالك حمل.

في الحقيقة، أن الجانب الثقافي، يلعب دورا عاما جدا ورئيسيا في مثل هذه الحالات، فقد تراجع معدل الحمل الكاذب من حالة لكل 200 حالة، وأصبح في أواخر القرن الثامن عشر حالة لكل عشرة الآلاف حالة، وهذا التراجع يوضح أن الضغط الاجتماعي مع الوقت بدأ يقل وبالتالي انخفضت نسبة الحمل الكاذب. العامل الآخر لقلة هذا الحمل هو وجود أدوات الكشف المتطورة، كالموجات الصوتيه (السونار) مما يدحض الفكرة قبل أن تتكوّن وتستمر المرأة في الوهم.

طيب ما هو أساس التغيرات الفسيولوجية التي حدثت لماري:

تورم البطن عادة ما يكون ناتج عن مزيج من خمسة عوامل: تراكم الغازات المعوية، انخفاض الحجاب الحاجز، دفع جزء من الحوض من العمود الفقري إلى الأمام، وتضخم كبير في الغطاء المتدل من الدهون أمام المعدة، وفي حالات نادرة يحدث تضخم فعلي للرحم.

أما ما يخص الدماغ وافراز الهرمونات التي تُرافق الحمل، فإن منطقة ما تحت المهاد قد تُنتج تغيرات هرمونية تحاكي جميع علامات الحمل تقريبا، فنحن هنا أمام اتجاهين متعاكسين، فكما أن الدماغ يؤثر على الجسم عن طريق افراز الهرمونات، هنا يُصبح الاتجاه عكسي، فيؤثر فالجسم على الدماغ فتتكوّن حلقات تغذية استرجاعية معقدة، تُشارك في الحمل الكاذب والمحافظة عليه.

فالتوق الشديد للطفل والاكتئاب المرتبط به قد يقلل من مستويات الدوبامين والنورأدرينالين (ناقلي البهجة) وبهذا يزيد معدلات هرمونات أخرى تُوّقف التبويض والحيض.

فَـ ماري مثلا – التي تريد بشدة أن تكون حاملا- عندما ترى أن بَطنها يكبر، وينخفض الحاجب الحاجز، فهي تتعلم بشكل لا شعوري أنها حامل، يُرافق ذلك بلع الهواء والذي تعلمته بشكل لا واع.

ومما يجعل الأمر معقدا ومثير للاهتمام، هو أن الحمل الكاذب قد يُصيب الرجال أيضا، نعم صدّق أو لا تصدق!

فقد سُجلت حالات نادرة لحمل يُدعى بالحمل التعاطفي، وهذا يحدث عند الرجال الذي يتعاطفون بعمق مع زوجاتهم الحوامل. تعاطُفهم بطريقة أو ما يجعلهم يُفرزون هرمون البرولاكتين – هرمون الحمل الرئيسي- مما يؤدي إلى ظهور بعض التغييرات.

ومن التجارب التي شملت علاقة التفاعل الواضح بين الجسم والعقل هو ما قام به الدكتور رالف إيدر، فقد قام بالتالي:

وضع طعام للفئران مصنوع من السكر مع مادة تُسبب الغثيان وتُثبّط الجهاز المناعي، تساءل بعدها على ستظهر علامات الغثيان إذا اعطا الفئران في المرة القادمة السكر فقط بدون مادة الغثيان؟

كما توّقع أظهرت الفئران نفورا من السكر فقط، بل ولاحظ الدكتور أن الجهاز المناعي قد تدهور في كل مره ترى فيها الفئران السكر، فأًصبح هناك مثل الارتباط الشرطي بين السكر ومادة الغثيان تعلّمه الجهاز المناعي. وهذا مثال قوي على تأثير العقل على الجسم، وتعتبر هذه التجربة علامة بارزه في تاريخ الطب والمناعة.

من هنا يتساءل راماتشاندرن، ماذا لو عالجنا نوبات الربو بنفس الطريقة، بنفس فكرة الترابط الشرطي، فمن المعروف أن نوبة الربو تُثار ليس فقط عن طريق استنشاق حبوب اللقاح من الورد، ولكن أحيانا بمجرد رؤية الورود تُستثار النوبة حتى ولو كانت هذه الورود مصنوعة من البلاستيك، فهل يمكن أن نوّسع الشعب الهوائية من خلال رؤية زهرة عباد الشمس في كل مره نستخدم فيه علاج الربو؟ بحيث أننا نكتفي بإخراج زهرة عباد الشمس في كل مرة نشعر فيها بضيق التنفس؟

بناء على ما عرفناه من تجربة الفئران والسُكر، لما لا؟

والحقيقة أننا هنا بحاجة لاستكشاف آليات الدماغ التي تكمن وراء مثل هذه التأثيرات، فقد تم ترسيخ مبدأ الارتباط الشرطي المناعي بشكل واضح، ولكن هل نستطيع ربط المنبهات الحسية المختلفة بأنواع الاستجابات المناعية، فهل نستطيع مثلا أن نستخدم الجرس فيستجيب الجسم لمرض التيفويد ويعالج نفسه؟

أم أن هذه الظاهرة تتضمن فقط تعزيزا عاما لجميع الوظائف المناعية في الجسم، وليس مرض بعينه؟

يتأمل راماتشاندرن علاقة الجسم بالعقل وكيف أن الطب الغربي يفصل بين العقل والجسم، وهذا لا يصح، فقد نحتاج للنظر إلى الأفكار الغريبة والتي قد نرفضها فقط لأننا لا نستطيع التفكير في آلية لشرحها.

فالناس كما يرى قد نفد صبرها من عُقم الطب الغربي وقلّ تعاطفهم معه، وهذا يفسر الطفرة الحالية في الطب البديل.

فالعلم يعتمد على التقدم من يوم إلى يوم عن طريق إضافة طوبة أخرى إلى هذا الصرح العظيم. ومجموعة المعارف العلمية تضم عدداً من المعتقدات المقبولة على نطاق واسع، تُسمى بالنموذج، وسنة تلو الأخرى تأتي الملاحظات الجديدة ويتم دمجها في نموذج قياسي موجود، وأغلب العلماء بناؤون وليسوا مهندسين معماريين، يُسعدهم فقط أن يُضيفوا حجرا جديداً، لهذا هم مُحافظون.

لذلك في بعض الأحيان، الحالة الشاذة قد لا تتفق مع هذا البنية الموجودة مسبقا، وهنا تظهر ثلاث احتمالات عند النظر لحالة شاذة جديدة، إما أن يتم تجاهلها ودَسُها تحت التراب، أو اجراء تعديلات طفيفة على النموذج الأصلي نفسه، والخيار الأخير هو أن هدم الصرح ونُنشأ شكلا جديدا لا يُشبه النموذج الأصلي إلا بقدر ضئيل، وهنا تكون الثورة العلمية أو التحول النوعي!

في النهاية لا يجب علينا أن نؤمن إيمانا أعمى بحكمة الشرق، ولكن من المؤكد أن هذه الممارسات القديمة فيها شَذَرات ثاقبة. ولذلك يرى الكاتب أن القرن الواحد العشرين قد يكون العصر الذهبي لعلم الأعصاب والعقل والجسم.


(موسيقى)


في هذه الفقرة سنُنقاش أفكار فلسفية شيّقة فيها الكثير من التحدي العلمي، أحدهم هو سؤال: هل يرى سكان المريخ اللون الأحمر؟

هذا السؤال هو تجربه فكرية تقودنا إلى فهم مصطلح الكواليا أو ما يُسمى بالإحساس الذاتي، وسأستخدم الكواليا كثيرا، لذلك هي تعني الإحساس الذاتي.

يتساءل الكاتب في البداية عن مفهوم الذات أو الأنا، ثم ينطلق من التقاليد الهندية التي تعلمها، والتي تذكر بأن الأنا التي في دواخلنا تفصِلنا عن فكرة أننا والكون شيء واحد، هذا الفصل يُعتبر كالحجاب ويسمونه المايا، متى ما رُفع هذا الحجاب ستُدرك أنك والكون واحد. ثم يستدرك فيقول أنه وبعد اكثر من 15 سنه درسها في الطب الغربي حول مرضى الاعصاب والاوهام البصرية، أدرك أن هناك قدراً كبيراً من الحقيقة في هذه النظرة، ف فكرة وجود شخص واحد موحد يسكن الدماغ قد تكون في الواقع وهماً.

فقد تعلّم أننا نَخلق واقعاً خاصا بنا، من مُجرد شظايا من المعلومات، وأن ما نراه ليس الا تمثيلاً، ليس دقيقا دائما لما هو موجود في العالم، وأننا لا ندرك الغالبية العظمى من الاحداث التي تحدث في أدمغتنا، وفي الواقع هناك مجموعة من الزومبي لا شعوريا يقومون بتنفيذ معظم أفعالنا.

طيب لنُجيب على السؤال الذي بدأنا به هذه الفقرة، يجب أن نفهم أن الوعي ينشأ من الدماغ وليس من أي عضو آخر، ويرى الكاتب أن هناك دوائر عصبية متخصصة لتُنفذ أسلوباً معيناً من الحساب، هذه الدوائر موجودة بشكل أساسي في أجزاء الفصين الصدغيين ( مثل لوزة الدماغ، الحاجز، وما تحت المهاد، والقشرة المعزولة) وكذلك منطقة التلفيف الحزامي في الفصين الجبهيين.

هذه المناطق يجب أن تتحقق فيها ثلاث معايير أساسية أسماها القوانين الثلاثة للكواليا أو الإحساس الذاتي، طبعا الكواليا تعني الإحساس الخام بالأحاسيس كالألم، أو اللون الأحمر، وهو شعورك الداخلي والذي لا يُشابه أحداً فيه، ويُسمي الفلاسفة هذه المعضلة بلغز الكواليا أو الإحساس الذاتي، أي كيف يمكن لتدفق الأيونات والتيارات الكهربائية في بقع صغيرة من الدماغ، أن توّلد كل الأحاسيس الذاتية: كـ الدفء، البرودة، اللون الأحمر والألم؟ بأي سحر ينتقل الأمر إلى النسيج الخفي للمشاعر والأحاسيس؟

سنقوم الآن بتجربة فكرية لنفهم أكثر لُغز الإحساس الذاتي أو الكواليا:

تخيّل أنك عالم أعصاب آت من المستقبل ولكنّك مصاب بعمى الألوان، ويوجد فقط لديك خلايا في عينيك تسمى الرُود، فهي فقط ترى اللون الأسود والأبيض، ولا تستطيع أن ترى باقي الألوان، كل شيء بالنسبة إليك إما أبيض أو أسود.

لنفترض أنك قررت دراسة دماغي، وأنا أدرك الألوان بشكل طبيعي، فأنا أستطيع أن أرى السماء زرقاء والعشب أخضر. لو حاولتُ أن أصف لك هذه الألوان فلن تفهم ما لذي أقصده عندما أقول إن السماء لونها أزرق، أنت ستنظر إلى السماء لتراها إما بيضاء او سوداء. وعلى سبيل الفضول قررت يا صديقي أو يا صديقتي أن تدرس ماهيّة الألوان، فوجّهت منظار الطيف على سطح تفاحة حمراء، واكتشفتَ أن طولها الموجي يساوي 600 نانومتر. حتى مع هذا فأنت لازلت لا ترى اللون الأحمر كما أراه، حتى ولو درست أصباغ العين الحساسة للضوء ومسارات الألوان في دماغي، ستفهم قوانين معالجة طول الموجة وتفاصيل التسلسل العصبي، وستقول بكل فخر ها أنا ذا شرحت لك كل شيء يخص اللون الأحمر، ولكن سيظل السؤال قائماً: أين هو اللون الأحمر في هذا المخطط؟

من هنا يتضح لنا أن الشعور باللون هو خبرة لا يمكن وصفها ولا يمكن نقلها إليك أبداً لأنك ببساطة مصاب بعمى الألوان تماماً؟

طيب ماذا لو تخطينا حاجز اللغة ومحاولة إيصال الوصف، وافترضنا أنني استطعت إيصال كيبل أو سلك من المسارات العصبية مصنوعة في المختبر، وقمت بإيصالها من مناطق معالجة الألوان في دماغي إلى مناطق معالجة الألوان في دماغك، هنا ستقولُ لي : أهاا أنا الآن فهمت ما لذي تقصده باللون الأحمر، إنني أعيش الآن نفس تجربتك.

لذلك يرد الكاتب على الفلاسفة فيقول: أن هذا السيناريو يهدم حجة الفلاسفة بأن هناك حاجزاً منطقيا لا يمكن التغلب عليه لفهم الكواليا، والفكرة الأساسية هي أن مشكلة الكواليا ليست فريدة من نوعها بالنسبة إلى العقل والجسم، والكواليا لا تختلف من حيث النوع عن المشكلات التي تنشأ من أي ترجمة، وبالتالي القول بأن هناك حاجز بين عالم الكواليا والعالم المادي غير منطقي، فهناك عالم واحد، فيه الكثير من حواجز الترجمة وإذا تغلبت عليه سوف تختفي المشاكل.

من خصائص الكواليا هي أنها غير قابلة للتلاعب، وسبق وأن ذكرنا مثالا في الجزء الأول من هذه الحلقة، وهو ما يحدث أثناء الحشو، فقد قلنا أن في العين منطقة عمياء لا يوجد بها خلايا عصبية تنقل إشارات الرؤية، ومع ذلك فإن المنطقة العمياء هذه يَقوم الدماغ لا إرادياً بحشوها لتكتمل لدينا الصور، لذلك يُفرق الكاتب بين الإدراك المحمّل بالكواليا والإدراك الذي ليس له كواليا، والفرق أن الإدراك المحمّل بالكواليا غير قابل للإلغاء بواسطة المراكز العليا في الدماغ، في حين أن الإدراك الغير محمّل بالكواليا مرن.

السبب في عدم القدرة على إلغاء الكواليا هو منع التردد وإضفاء اليقين عليها لاتخاذ القرارات إن لزم الأمر.

إذا الكواليا غير قابلة للإلغاء أو التلاعب، وهذه هي الصفة الأولى لها.

الصفة الثانية للكواليا هو التمتع برفاهية الاختيار، فمرونتها تكون في جانب الإخراج، فمثلا حينما تشعر باللون الأصفر أو كواليا اللون الأصفر فإنه يمكنك أيضاً التفكير في الموز الأصفر، الجلد الأصفر إلخ.

الصفة الثالثة للكواليا هو استخدام الذاكرة، وأعني الذاكرة الفورية فهي تسمح بتمثيل الكواليا لنستطيع أن نعمل عليها.

طيب لنأخذ مثالاً عمليا بعد أن نظّرنا لعناصر الكواليا الثلاث:

عندما يكتشف النحل وجود حبوب، يقوم بإداء رقصة اهتزازية معقدة يصف فيها موقع الحبوب لبقية الأفراد، لذلك يأتي السؤال هنا: هل تكون النحلة واعية عندما تقوم بهذه الرقصة؟

عندما تبدأ بالرقص فلا يمكنها إلغاء ذلك، وهذا يعني أن أول شرط للكواليا اكتمل، فقد ذكرنا أن الكواليا لا يمكن إلغاؤها. وبما أن النحل يتصرف بوضوح طبقاً لنوع من أنواع تمثيل الذاكرة القصيرة فهنا نقول أن شرطا الثاني قد تمّ، ولكن النحلة للأسف تفتقر للشرط الثالث وهو مرونة المخرجات، فهي لا تستطيع أن تفعل الإ شيئاً واحداً بهذه المعلومات، ولا يوجد إلا مخرج واحد وهو القيام بالرقصة الاهتزازية، ومن هنا نستنج أن النحلة غير واعية ولا يوجد لديها كواليا وبالتالي هي تُعتبر زومبي لا واع لعدم اكتمال شروط الكواليا.

طيب بعد هذا الشرح والتجارب الفكرية، أين مكان الكواليا بالضبط؟

يتفق الجميع أن الكواليا والوعي لا يرتبطان بالمراحل المبكرة من معالجة الإدراك كما يحدث في شبكية العين، وكذلك لا يرتبطان بالمراحل النهائية من التخطيط للأفعال الحركية عند تنفيذ السلوك، والأغلب أنها مرحلة المعالجة الوسطية: فهي مرحلة يتم إنشاء الإدراك فيها مثل: إدراك اللون الأصفر أو مشاهدة حيوان ما، ويحدث هذا بشكل رئيسي في الفص الصدغي والبنى الحوفية المرتبطة به، وبهذا المعنى يكون الفص الصدغي هو الوسيط بين الإدراك والفعل.

بعد أن ناقشنا الكواليا وحاولنا فهمها، سننتقل الآن إلى الذات، وماهيّة الذات، وهنا الذات وخصائصها هي اجتهاد فلسفي من الكاتب، ومحاولة جادة منه لفهم لغزها.

فيقول: أن الكواليا والذات هي وجهين لعملة واحدة، ومن الواضح أنه لا يوجد شيء من قبيل الكواليا المطلقة، ومن الصعب تخيل وجود شخص يخلو من كل أنواع الكواليا.

ماهيّة الذات هي كلمة تُشبه السعادة أو الحب، فنحن نعرف ماهيتها ونعرف أنها حقيقية، ولكن من الصعب جداً تعريفُها أو حتى تحديد خصائصِها، فهي مثل الزئبق كلما حاولت الإمساك به زاد ميلُه للهروب.

طيب ما هي الخصائص التي تحدد الذات:

الذات الأولى هي الذات المُتجسدة: وهي التركيز الذاتي داخل الجسم الواحد، فإذا أغمضتُ عيني سيكون لديّ إحساس قوي بأجزاء الجسم المختلفة وهذا ما يُسمى بالصورة الذهنية للجسم، فإذا قُرصَت إصبع يدي فإن الذي يتألم هو أنا وليس الإصبع.


الذات الثانية هي الذات العاطفية: من الصعب تخيل الذات دون انفعالات. فإذا كنت لا ترى معنى شيءٍ ما أو أهميته فبأي معنى تدركه بوعي، وبالتالي الانفعالات تعتبر جانباً أساسياً من جوهر الذات.


الذات الثالثة هي الذات التنفيذية: طبعا هنالك أفكار ودروس كثيرة تعلمناه من علم الأعصاب، وتقول بأن الإنسان يعيش في عالم كرة البلياردو الحتمي، وتعني أن الإنسان ينساق دون إرادة وفقاً لشروط مُسبقة وُضعت، ومع ذلك فإن الشعور بالمسؤولية هو جزء من تكوينِنا وإذا كنا مسيرين أو مخيرين، ولكننا نُدرك في نهاية الامر أننا مسؤولون وهذا يكفي لاستدلال هنا، وفيه هذا النقطة يذكر الكاتب أن الإنسان لديه تقدير لمعرفة ما الذي يمكن أن يقوم به ومالذي لا يستطيعُه، فأنت تعرف أنك لا تستطيع رفع شاحنة، وتعرف مثلا أنك لا تستطيع معاقبة رئيسك حتى ولو كنت ترغب بذلك.


يأتي بعد ذلك الذات الرابعة وهي الذات الحافظة: هذه الخاصية تجعلك تشعر بأنك شخص واحد يستمر عبر الزمان والمكان، في سلسلة طويلة من الذكريات الشخصية أي سيرتك الذاتية، هذه الذكريات هي قصة متماسكة ومهمه جدا لبناء الذات.


الذات الخامسة هي الذات المُوحِدة: وهي تفرِض التماسك في الوعي والحشو والفبركة: وهنا نقصد أن الحشو نفسه هو نوع من المعالجة والإعداد للكواليا لتمكينها من التفاعل بشكل صحيح مع البُنى التنفيذية.



بعد ذلك تأتي الذات اليَقظة: ونقصد بها المفتاح الحيوي للدوائر العصبية الكامنة وراء الكواليا والوعي والتي إن غابت سببت لي اضطرابا. هذا الاضطراب يُسمى بالغيبوبة اليقظة حيث إن هؤلاء المرض لا يتحركون ويصيبهم الخرس ويتفاعلون ببطء شديد عن طريق التحفيز بالألم، ومع ذلك فهم يبدون مستيقظون ومنتبهون ويحركون أعينهم، وعندما يخرج المريض من هذه الحالة يصفها بقول: أن كل ما في الأمر أنني لا أريد أن أفعل أي شيء أو أفكر في أي شيء أو أقول أي شيء.


الخاصية الأخيرة للذات هي الذات التصوّرية والاجتماعية:

في البداية يجب أن تكون المعلومات الموجودة في ذاكرة السيرة الذاتية والمعلومات عن الصورة الذهنية للجسم في متناول مفهوم الذات، بحيث يكون التفكير والتحدث عن الذات ممكن، وبالتالي نستطيع أن نُقدم ذواتنا بصفة موحدة من أجل تحقيق الأهداف الاجتماعية ولكي نكون مفهومين للآخرين. فنحن نُقدم ذواتنا كاعتراف بهويتنا في الماضي والمستقبل، وهذا بالتالي يجعلنا جزءا من المجتمع.


في النهاية مفهوم الذات حتى الان لازال لغزاً كبيراً، وعالم الاعصاب راماتشاندرن في هذه الفقرة حاول قدر الإمكان أن يصف خصائصَها وأنواعَها وهذا ليس نهاية المطاف، فالبحث العلمي والفلسفي باقِ ببقاء الإنسان.

إلى هنا تنتهي هذه الحلقة، وأرجوا منكم كالمعتاد الاشتراك ونشر البودكاست، كما وأنني سأكون سعيدا بتعليقاتكم على منصة البودكاست ليرتفع التقييم ويصل لأكبر عدد من الناس، اكتب إيجابا أو سلبا، أو اطرح مواضيع تحب أن نناقشها.

كان معكم نايف ناجي

اترككم بخير.




37 views0 comments

Comentarios


bottom of page