top of page
  • Writer's pictureنايف ناجي

الحلقة الثانية والعشرون - اللغة والدماغ



أنا نايف ناجي وهذا بودكاست ذا بريني برين

أهلا بكم جميعا في حلقة جديدة من حلقات علم الأعصاب.

إن اللغة هي الهوية، وهي في الحقيقة من تحدد سمات الشخص وكيف يُفكر، فيقول هيغل : لإنسان يفكّر داخل اللغة لا خارجها، وفعل التفكير لا يتحقّق مستقلاً عن فعل الكلام أو تركيب الجمل.

إذا اللغة هي الإطار الذي يتحرك فيه الفكر، وأرى أن الإنسان عندما يُفكر بلغة ما، فهي تشكّل أيضاً ثقافته. وتظل اللغة الأم هي سيدة الموقف، فأنا مثلاً ألجأ إليها عندما تحتد الأمور، فأحيانا يتكرر علي موقف يجعلني أتأمل، فقد أكون أتحدث مع أحد بلغة ما، ولكن عندما أريد أن أعدّ بسرعة ودون تفكير، أُلاحظ أنني تلقائيا أَعد بالعربية ثم أعود لأتحدث باللغة الأخرى ، وكأنني أشعر بالثقة عندما أستخدم لغتي الأم.

عموما، اليوم سنتحدث عن علاقة اللغة بالدماغ، وسأشارككم بعض الأفكار المثيرة للتساؤل، وكيف أن اللغة لا تكتفي فقط بالتأثير المعنوي على نطاق الأفكار، بل تؤثر أيضا على تركيبة الدماغ نفسه، فتجعله يتشكّل على أساسها واحتياجاتها.

(موسيقى)

تَحدثت في حسابي على التيك بشكل سريع عن دراسة جديدة من معهد ماكس بلانك، عن علاقة اللغة بتركيبة الدماغ، فأدعوكم لمتابعتي على التيك توك، لأنني تقريبا وبشكل يومي أنشر فيديوهات سريعة لا تتعدى الدقيقة، عن بعض القصص والدراسات والغرائب في علم الأعصاب.

حسابي سأضعه في صندوق الوصف فشجعوني لأكمل، فأنا اعتمد على الدوبامين وجهاز المكافأة بشكل لا يُصدق.

على كل حال، في مارس من هذا العام 2023 نشر معهد ماكس بلانك للعلوم دراسة، قارن فيها بين العقل العربي والعقل الألماني، وكان عنوان الدراسة هو التالي:

لُغتنا الأم تُشكل أدمغتنا، ولا علاقة لهذا البحث عن المقارنة بين، مَن دماغه أفضل من دماغ الآخر، وإنما استخدموا العرب والألمان ليستشهدوا على سؤال البحث.

في هذه الدراسة استخدموا تقنية (التصوير المقطعي بالرنين المغناطيسي) MRT ، وفي هذا النوع من التصوير لا يكتفس فقط بتصوير تشريح الدماغ ، بل يقوم أيضا بتصوير الوصلات العصبية بين أجزاء الدماغ عن طريق أسلوب يُسمى بالـ Diffusion-weighted image وهي تقنية دقيقة تصوير توزيع ذرات الماء بين طبقات الدماغ – إن صح التعبير - .

مجموع الطلاب الذين تمت عليهم الدراسة 94 طالب، طبعا مقسمين بين عرب والمان يتحدثون بلغتهم الأم.

النتيجة أوضحت أن تركيبة الدماغ والوصلات العصبية نشأت وتكوّنت بطريقة تتوافق مع اللغة الأم، وفقاً للصعوبات والتحديات التي تواجه المتحدث بهذه اللغة.

الطلاب العرب كانت الارتباطات العصبية الأقوى لديهم بين الفصين الأيمن والأيسر من تلك الموجودة لدى الألمان، ويشرح ذلك قائد البحث قائلا: هذه القوة في الترابطات العصبية كانت بين مناطق اللغة المهتمة بالدلالة اللفظية المتنوعة وكذلك مناطق معالجة الأصوات، وهذا سبب منطقي، بسبب تعقيد هذه العمليات داخل ادمغتنا.

في الجانب المقابل، الطلاب الألمان وجدوا أن لديهم تعقيد في الترابطات العصبية اللازمة لتحدث لغتهم، حيث أن الارتباطات العصبية المعقدة تتمركز في الجانب الايسر من مناطق اللغة في الدماغ، وهذا بسبب تعقيد العمليات النحوية في الألمانية، فترتيب الكلمات شبه حر، تستطيع أن تُقدم وتأخر وتمد الجملة كيفما تريد، وهذا لا يضر بالمعنى.

خلاصة الدراسة وجدت: أن الارتباطات العصبية وتعقيدها يتأثر باللغات وكذلك بالبيئة التي ينشأ فيها الإنسان، وهذا أيضا يمتد أيضا إلى القدرات المعرفية عندما يكبر الإنسان.

وهناك خطة مستقبلية أن يدرسوا تأثير اللغة الألمانية على الدماغ العربي خلال أول ستة أشهر من تعلم اللغة، وسأحاول أطرحها في حلقة متى ما تمت.


(موسيقى)

في هذه الفقرة سنأخذ بعض الأمثلة على أن اللغة فعلا تؤثر على طريقة التفكير.

وللتحذير، ستكون هناك أسماء كثيرة لن أستطيع نطقها بالطريقة الصحيحة، ولكن سأحاول ما استطعت، فوجب التنبيه.

طيب،

عندما أسألك عن المستقبل، هل هو أمامك أم خلفك؟

ستجيب أكيد المستقبل أمامي والماضي خلفي، ولكن ليس عند الأمارا ، وهم شعب يسكنون في أجزاء قريبة من أثويبيا، فهم يرون أن المستقبل في الخلف والماضي أمامهم، والسبب كما يظنون أن المستقبل مجهول لذلك وجب أن يكون خلف الإنسان، بينما الماضي نعرفه ولذلك فهو أمامنا.

بشر أخرون يدعون بالماندارينا وهم مجموعة تعيش في الصين، لديهم تصور آخر تماما، فه يرون أن المستقبل في الأسفل والماضي في الأعلى، ولا تسألني لماذا يفكرون بهذا الطريقة.

فهم الألوان يتأثر باللغة أيضاُ، فمثلا من يتحدث الروسية يكون دقيق في درجات اللون الأزرق فهو يُفرق بين الأزرق الغامق من الفاتح وهكذا، بينما من يتحدث الكورية فستجد أنه متميز في درجات الأخضر والأصفر.

ومن الأشياء التي تجعل الموضوع أكثر تعقيدا هو جنس الأسماء، فعلى سبيل المثال في اللغة الألمانية الشمس تُعتبر مؤنث، وفي الإسبانية الشمس تعتبر مذكر. الورد عند الروس مذكر، وفي الفرنسية تعتبر مؤنث.

ولعلي هنا سأذكر مشكلتي الكبيرة في تعلم جنس الأسماء، فأنا حاليا أدرس اللغة الألمانية، ومن أصعب الأشياء والتي تُرهق متعلم هذه اللغة، هو جنس الأشياء، فلديهم ثلاث أنواع وكل نوع له أداة تعريف: فلديه المؤنث والمذكر والمحايد، ويجب عليك أن تتعلم كل اسم يمر عليك مع أداة التعريف، هناك تلميحات قد تُخبرك، ولكن كن متأهباً للاستثناء، وعلى أساس جنس الاسم يكون الإعراب، بمعنى أنك إن لم تكن تعرف أداة التعريف المناسبة فحتما جملتك ستكون قواعدياُ خاطئة.

من هذه التجربة، تعلّمت أن اللغات الأخرى تجعلك تنظر للأشياء بطريقة مختلفة، فلو حاولتُ أن أكتب شعرا وأصف أنثى بأنها كالشمس، لو كتبت الوصف بالألمانية فالشمس مؤنثه، بينما باللغة الاسبانية فالشمس مذكر، هل سيُفهم النص جيداً لو ترجم من لغة لأخرى؟ لا أعلم.

أو كيف سيفهم من يرى أن المستقبل خلفه عندما أقول له، لا تخف لا يزال المستقبل أمامك.

ومن التجارب في هذا السياق أن العلماء قاموا في تجربة بالطلب من أطفال يتحدثون لغات مختلفة أن يبتكروا صوت مناسب لآلة مثل المِحمصة، وعلى أساس لغاتهم كل منهم قلّد صوت يتناسب مع جنس المحمصة في لغته الأم، فالبعض تخيّل أنها ولد وآخرون تخيّلوها فتاة.


في مقال كُتب على موقع Scientific American ذُكر فيه قصة لطيفة، يقول الكاتب أنه كان يقف بجانب فتاة بعمر الخمس سنوات من ال Porm Puraaw وهم مجتمع يعيش في شمال استراليا، سأل هذه الفتاة: أين الشمال؟ فأشارت بيدها ودون أي تردد إلى الشمال، تأكد من بوصلته، وكانت الإجابة صحيحة.

بعدها ذهب إلى جامعة ستانفورد، وسأل الحاضرين في أحد المحاضرات، وهم طبعا من المتعلمين وقد يكون بينهم من حصل على جائزة النوبل، طلب منهم أن يغلقوا أعينهم وأن يُشيروا إلى الشمال؟

ولن تصدق أن الكثير منهم أخطأ، والبعض رفض حتى المحاولة.

طبعا قام بطرح نفس السؤال في جامعات أخرى في دول مختلفة، والنتيجة كانت أن الأغلبية لا يعرفون أين الشمال عندما يُسألون مباشرة. وهذا بالتأكيد لا عيب فيه، فنحن لم نتعود أن نستخدم الاتجاهات كما نستخدم اليمين واليسار، فوق وتحت إلخ، وميزة معرفة الاتجاهات بسرعة دون التفكير، هي قدرة إدراكية تأتي مع التعود، وطريقة عمل اللغة هي من تُقوي هذه المهارة كما عند الفتاة ذات الخمس سنوات.


المقال يذكر أيضا جملة باللغة الإنقليزية وكيف أنها قد تعني أشياء ويُفهم منها تفاصيل على حسب بأي لغة قيلت:

الجملة هي: I saw Uncle Vanya on 42nd Street

بمعنى أنني رأيت العمل فانيا في شارع اثنين واربعين.

في لغة الميان في غينيا الجديدة، الفعل المُستخدم في الجملة سيُخبرك أن هذا الفعل (فعل الرؤية) حدث الان، أو في الأمس، أو في الماضي البعيد.

أما في اللغة الأندونيسية، فلن يكون هنالك تحديد لزمن الفعل: هل حَدث أو لا يزال سَيحدث، لا تستطيع إدراك زمن الفعل جيداً.

في اللغة الروسية ستفهم شيء إضافياً، فالفعل سيُفهمك مَن المتحدث؟، أهو ذكر أم أنثى؟

أما في لغة الماندارين، ستتعرف أكثر على الرجل الذي رأيته، هل هو عمك من جهة أبيك أو خالك جهة أمك (كما نقول لدينا) وهل هو عم أو خال بالدم أم بالزواج.

في لغة البيراها، المتحدثة بها في الأمازون، لا يوجد الرقم 42، لعدم وجود أرقام عندهم، فإما أن يكون الشيء قليل أو كثير.


(موسيقى)

كيف تؤثر اللغات في الحياة العملية على متحدثيها.

البشر الذين يعيشون في Porm Puraaw كالفتاة الصغيرة التي ذكرناها، يستخدمون الاتجاهات كالشمال والجنوب الشرق والغرب، ولذلك فأصحابها يتميزون في مقدرتهم على تحديد مكانهم، أينما وضعتهم بالنسبة للاتجاه.

في وصف الأشياء، وفهم الأحداث نجد أن هناك اختلافات أيضاً. فمثلا في اللغة الألمانية، الجسر مؤنث، وفي الإسبانية مذكر. ففي تجربة تمت طلبوا من المشاركين وصف الجسر، والإجابات تأثرت بجنس الجسر، فالألماني وصف الجسر بأنه جميل، وساحر (كوصف للأنوثة)، في حين أن الأسباني وصفه بالصلابة والقوة (كوصف للذكورة).

وعلى مستوى ترتيب الجمل، نجد أن هناك تأثير ينعكس على التفكير، فمثلا في اللغة الإنجليزية يتم استخدام الترتيب التالي في الجمل: الفاعل ومن ثم الفعل ويأتي بعد ذلك المفعول به.

ولكن في اللغة اليابانية يُستخدم الترتيب التالي: الفاعل ثم المفعول به وفي الأخير يأتي الفعل، ولهذا تذكر أحد الدراسات أن اليابانيين يميلون للربط اعتباطيا بين حدثين حتى ولو لم يكن هنالك ارتباط منقطي، وهذا يُفهمنا أن اللغة تؤثر على طريقة التفكير.

مثال آخر عندما يتم شرح حدث معين فإن اللغات تختلف في كيفية رؤية الأحداث، ففي دراسة قارنوا فيها بين اللغة الاسبانية واللغة الإنجليزية وجدوا التالي:

في اللغة الإنجليزية قد نقول the Vase broke وتعني الفازا انكسرت بدون أن نذكر الفاعل وكيف حدث الكسر، بينما باللغة الاسبانية فان الفعل المُستخدم يوضح هل تم كسرها عمداً؟ أو بدون قصد؟ وهذا الفرق وإن كان يبدو بسيطا إلا أنه يؤثر في رؤية الأحداث.

وفي إعلان لشركة نيستلا لحليب للأطفال في الماضي، وضعوا مُلصق على علبة الحليب فيه صور لمراحل الطفل من الولادة إلى أن يمشي ويكبر، وكان اتجاه تسلسل الصور من اليسار إلى اليمين، ولكن عندما قُدم للمتحدثين باللغة العربية وجدوا مشاكل في فهم ذلك. ويدخل في ذلك تنظيم الأحداث، فمثلاً لو أعطيت شخص يتحدث العربية مجموعة صور لموزة تبدأ في التعفن وطلبت منه أن يرتب هذه الصور ترتيباً زمنيا حتى فساد الموزة سيبدأ بالترتيب من اليمين إلى اليسار، أما إذا كان يتحدث لغة تُكتب من اليسار إلى اليمين كالإنجليزية سيُرتبها بالعكس، إذا حتى مفهوم الوقت وترتيبه يتأثر باللغة.

الخلاصة:

أن كوكب الأرض فيه ما يقارب ال 7000 الالاف لغة، كل لغة منها لها نقاط تميزها عن غيرها، وهذا الاختلاف يجعلنا ننظر للأمور بطريقة مختلفة، وهذا ليس عيباً، إذ أننا في الأخيرة تجربة إنسانية واحدة في هذا الكون.

ويجب أن نتذكر أن التفكير يتحرك في إطار اللغة وقواعدها وخصائصها.

هذه بعض الأفكار التي أحببت أن أشارككم فيها، وإلا فالموضوع يطول وشيق، ولو كان لي كلمة أخيره أقولها، فسأقول: تعلّم أكثر من لغة تُفكر بأكثر من طريقة!

كان معكم نايف ناجي.

أترككم بخير!


34 views0 comments
bottom of page